الخابور
سنشهد، كسوريين، شهوراً مقبلة من الجدل حول ما سُمي منذ الآن بالمبادرة العربية، والتي راح الجميع يناقشها رغم غموضها وعدم طرح أي دالة رسمية عليها بعد، لكن هذا لا ينفي وجود "تفكير" في شأنها، في هذه الدائرة أو تلك من دوائر صنع القرار، ونحن هنا لا يسعنا أن ننفي أو نؤكد ما يتم تداوله من شروط وعروض سياسية، لكننا سنفكر بصوت عال في ما يجب أن يكون عليه موقف المعارضة السورية في هذه المرحلة.
في مقال نشرته هنا بعنوان "أفكار لمبادرة عربية في سوريا"، منتصف الشهر الماضي، قلت ان أي طرح مسؤول للحل في سوريا يجب ان يتحلى بالواقعية، وأن يأخذ مصالح وهواجس كافة الأطراف بجديّة. وخلصتُ إلى القول بأن العرض الوحيد الذي يمكن قبوله من طرف السوريين الثائرين، مشروط بشرط وحيد، هو إزاحة بشار الأسد من السلطة، وكل ما دون ذلك قابل للنقاش. من ناحية أخرى، تحتاج الفئة الموالية لبشار الأسد، إلى ما يضمن أمنها ومصالحها عند زواله، وهو زائل في النهاية بحكم الموت الفيزيائي على الأقل، ولا بد من البحث عن حلول غير التوريث الذي يبدو وصفة مجزرة مستقبلية أخرى للفئة الموالية قبل المعارضة.
الطرف العربي، إن بادر، فإن دوره سيتجاوز الوساطة لتحقيق اللقاء العسير بين هذين المطلبين، إلى دور الضامن الذي تفوضه المعارضة بتقديم التنازلات الضرورية لعقد الصفقة، ويستطيع إقناع المولاة بأنه قادر على الوفاء بتعهده أمنها ومصالحها المستقبلية، سواء من خلال الالتزام المباشر بتلك المصالح اقتصاديا وعسكرياً، أو من خلال اتفاقيات أو عقد اجتماعي مكفول من طرف تحالف عربي أو دولة عربية موثوقة تقود الصفقة منفردة.
لكن ما نوع التنازلات التي تستطيع المعارضة تقديمها، في مقابل إزالة بشار الأسد من المشهد؟ في تصوري أنها تستطيع أن توافق حتى على التنازل عن السلطة التنفيذية برمتها، لصالح الطرف الآخر في المرحلة الانتقالية، ما دام ذلك يكفل حدوث التغيير الذي ينهي حكم الديكتاتورية المؤبد، ويفسح المجال أمام عودة السوريين إلى ميدان اللعب السياسي ومأسسة العمل المعارض في الداخل. فالمسألة السورية برمتها تفجرت بسبب نظام الحكم المفروض بقوة السلاح، وإزاحته تعني زوال العقبة الرئيسية أمام تطور الحياة السياسية السورية بالتدريج، لتصل إلى الشكل المأمول.
إن قلة قليلة ممن يقرأون هذا الكلام سيجدونه قابلاً للتطبيق، فيما ستجد الغالبية أن الأسد ونظامه سيرفضان هذا الطرح مسبقاً، وأنا واحد من هذه الأكثرية التي تقول بذلك. فلماذا أرفع هذه الدعوة إذن؟ في الواقع أنا أدعو المعارضة السورية إلى الانخراط في المبادرة العربية بشرطها الوحيد آنف الذكر، وإبداء الاستعداد لتقديم أقصى التنازلات، لأن الانكفاء ورفض يد العون العربي، سيمنحان تلك اليد، ببساطة، لنظام الأسد.
فبشار الأسد الذي قتل مئات الآلاف من معارضيه ومؤيديه على السواء، للبقاء في الحكم، لا يوجد في عقله الأحادي المهووس بالسلطة، مساحة للقبول بالتنازل عن تنصيب أحد أبنائه خلفاً له، فما بالك برحيله هو ذاته عن كرسي الحكم. لكنه، وبما عُرف عن نظامه منذ عهد أبيه، من إتقان لعبة القفز على حبال التناقضات الإقليمية والدولية، سيتوجه في المرحلة المقبلة إلى الصف العربي للحصول على دعمه بعدما استنفد كامل رصيده لدى إيران وروسيا، هو ما سينجح فيه إن واصلت المعارضة السورية اعتصامها بعزلتها البليدة، ورهبتها التاريخية من التعاطي مع الأحداث والوقائع بالأساليب "السياسية".
بلى، العرب يفكرون في أن شيئاً ما يجب أن يفعل من جانبهم في سوريا، وقد التقط نظام الأسد الإشارة، وبادر. وكان يفترض بالمعارضة أن تسبقه خطوة في هذا المجال، نظراً لحظوتها عند عدد لا بأس به من الدول المحورية، لكن الأوان لم يفت بعد لقطع الطريق عليه. وعلى تلك المعارضة أن توضب أوراقها في أسرع وقت ممكن، وأن تبادر إلى عقد اللقاءات مع الأطراف العربية وطرح عرضها ذي المطلب الوحيد، وهو إزاحة بشار الأسد. ولديهم عدد لا نهائي من مسوغات هذا الشرط، أحدها قتله لمليون سوري. فإن تحقق هذا الشرط، فإنها فازت، وإن تعثر فإنها تكون بذلك قد تفادت خسارة كبيرة هي إدارة العرب لأزمة النظام الخانقة وإخراجه منها في الرمق الأخير.
المصدر : جريدة المدن - عبدالناصر العايد