احمد الشمام
تبدو قصة الفنان الذي رسم لوحة للملك المستبد القبيح مهمة في سياق حنكته، في رسم صورة أجمل للملك كي يتماهى الأخير معها متغيرا نحو الأفضل، وصولا لتحكُّم الفنان المضمَر بالملك حيث يرسم له طريقه وفقا للنزوع اللاشعوري بذاك التماهي.
تبدو الخطوة منتجة بظروف ملك وحيد ومنعزل، أما في زمننا المتخم بملوك وأباطرة، وسماسرة تتبناهم قوى ليكون لكل منهم حاشية وسحرة وكهنة وحرس، فهي هدامة عندما يرسم المثقف صورة للأب البطرك أو رَجلُه ليلمّعه لوحة للتسويق، ثم ما يلبث أن يتماهى المثقف مع المشروع وصاحبه تحت وطأة التجميل الذي ابتدعه، في الخطوة الثانية تبدأ مهمة المثقف كمنتج ومبدع لأفكار مضلِّلة ومحرّفة للتحدث عن أفكار ومنجزات السلطة؛ كبيرة أم صغيرة، قديمة أم بديلة -في قصة تبادل الآباء- تحت مقولات كبيرة مثل ممانعة/ مقاومة، بطل الحرب/ وبطل السلام، رمز الإنقاذ أو صاحب الحنكة السياسـية.
يكون المثقف المحترف حسب إداورد سعيد قابلا للعمل في أي برنامج، مهنيا، محترفا يخلص لعمله في انتاج معرفة/ فن، لكنه تابع لخطاب المؤسسة المرجعية –السلطة، ويقع خلط كبير بين المعرفة كمنتَج، وبين موقف حاملها إلى أين يشير، فإنتاج المعرفة أو المقولات الجميلة هي لغة حمالة أوجه، بينما يجب قياسها بالخطاب الذي تنتمي إليه أو ينتمي صاحبها له؛ بالتالي فإن موقف المثقف يأخذ بعدا حديا معياريا، وإلا فإن ماسردته في السطور السابقة يستطيع ذاك المحترف أن يسرده تماما، أما أن يكون مثقفا هاويا فسيكون باتجاه المغايرة ومواجهة الخطأ؛ وتلمس مواطنه وطرح أفكار من شأنها أن تبعث على الفضح والتعرية وتفكيك منظومة الطغيان وخطاب التزوير، وأخرى على التنوير والاهتمام بالجذور الثقافية للتغيير وأسباب تعثر ثورة كلفت ملايين الضحايا بين شهيد ومهجر، وفي ظرفٍ كونيٍ كهذا تصبح مهمة المثقف – الهاوي البحث بروح نقدية نازعا إلى البناء الفكري لا الانخراط في الكتل التي تعتمد تحشيد الجموع وإن ارتزاقا وبعيدا عن قيم الثورة.
ولعلي هنا أحدد مؤتمر القاهرة للعشائر العربية، بدعوة من أحمد الجربا رئيس تيار الغد الذي حضره ثلاثة مثقفين كانت أقلامهم للثورة وليتهم اكتفوا بذلك؛ إذ بعد سبع سنين عجاف في الثورة وتتالي عتبات الموت التي تتعالى كل يوم، وتستفز الجاهل والمثقف أن ينخرط في كتلة ضد النظام ولم يفعلوا، ما لبثوا أن تداعوا للمشاركة كجزء من الكتلة المشكلة المنضوية تحت عباءته، بعد انسحاب كل منتسبيها النازحين من محافظاتنا الثلاث بعد فضيحة «ووترغيت» أورفة في تركيا منذ سنة، بعد تنسيقها المعلن مع قسد في القاهرة، وإعلان مجموع المنتسبين انسحابهم ببيان جماعي صدر في تركيا، ولعلي هنا أورد كلمة النازحين للتدليل على استغلال الحاجة المادية لمجموعة مهجّرين من المحافظات الثلاث ذات البنية العشائرية بعيدا عن موقفها من النظام وعن أي منظور سياسي.
رغم ذلك ربأ منتسبوها بأنفسهم أن يبقوا بعد تكشف مؤتمرات الجربا وتنسيقاته المعلنة مع حزب العمال. ومثلما أفرز النظام قوى «معارضة» تعمل لصالحه لتمييع صوت الثورة كمنصة موسكو، تم تشكيل قوى تدعي المعارضة، وتبغي الدخول في مزاد الحرب على تنظيم الدولة أنشأتها قسد في الشرق السوري لاحتواء الصوت العربي المتهتك تحت نيران القتل والتهجير العرقي وجرائم الحرب، وتسير في فلك طروحاتها وتنسق معها رسميا عبر ما يسمى تيار الغد الذي يرأسه الجربا.
لا يُخفى أن الشعارات كثيرا ماتكون براقة وجميلة وكلمات حق يراد بها باطل، وتعمل الكتلة على تحشيد مدنيينا في الداخل من ضحايا التهجير للانضواء في مشروعها المخادع، رغم أنها لم تجتذب في سلوك الجربا السياسي -عبر سني رئاسته الائتلاف – سوى بعض وجوه عشائرية لا شيوخا وازنين، هي حركة لإيجاد كهنة وحرس وكتَبَة لأحمد الجربا الذي يبدو إثبات مسيرته في تشويه الثورة.
وفي رد أحدهم لكتلة الجربا بأن الكتلة المبتدعة خرجت ببيان غير معد سلفا، يكفي أن نشبه ذلك بما يصدر عن كتل مواربة للنظام، لم تطلق سوى مقولة التغير السياسي وحرب تنظيم الدولة والحفاظ على سوريا، دون برنامج سياسي محدد ولا نظافة في التحالفات، مع محظورات محددة لها سلفا، كإدانة قسد وجرائمها بما أنها شريكة مع قسد على الأرض ببضع ممن يتقاضون الرواتب ، وللدلالة على موقفها السائر في فلك محدد مسبقا مع قسد؛ لم يظهر في بيانها الختامي إدانة لحزب العمال أو قسد التي صرحت الأمنستي الدولية بارتكابها جرائم حرب.
وعند سؤال صحافي مصري عن وجود جرائم تهجير بحق المدنيين في الرقة أو دير الزور لم تتم الإجابة، وعند سؤال آخر عن مدى صدقية طرح كتلة ناجمة عن التوجس من قسد وهي شريكة لقسد تم التملص من الإجابة كذلك، رغم أن من المسلم به مقولة «ما تريده الشعوب ليس بالضرورة أن يعبر دوما عن مصالحها» لكن المؤتمر وما نجم عنه استخدم مقولة التغيير الديموغرافي والحفاظ على الهوية العربية للمنطقة بشكل ينفع للتحشيد لكتلة وعسكرة تسيل لعاب الداعمين، مما لايشكل استجابة لا لرغبة الشعوب ولا صالحها، أسال مثقفينا هل «من تحت الدلف لتحت المزراب أم أن… الجمهور عاوز كده.»
المصدر : القدس العربي