(الخابور - الأستاذ محمود الماضي)
لاشكّ أنّ إدارة المناطق المحرّرة ومزعومة التحرير كانت مرحلة عصيبة، على صعيد راهن المرحلة التي تعود إلى فوضى احتكام المحررين إلى السلاح بكلّ صغيرة وكبيرة، إذا تبين في مابعد أن مزعومة التحرير، ماهي إلا تحضير لمرحلة القمع والاستبداد والخوف والرعب هذا من جهة.
أما من جهة أخرى كانت المرحلة الثانية ، هي صناعة البديل ضمن حسابات إدارة قوى عظمة للازمة، تخللتها مرحلة تدجيّن مكونات الجزيرة لاستقبال الحل الذي يمثل بنفس الوقت مصلحة تلك الدول .إذ جاء بعد الفراغ الأمني والقانوني، وافتقاد التنظيم وعدم الاستقرارالسياسي، فرض استقرار أمني بالإرهاب، يمهد لطرح النظام البديل والمعادل لنفوذ الدول التي سترعى مصالحها عبر هذا البديل.طرحت في المرحلة التي تتقدم على سابقتها بنوع من الاستقرار، تجربة "الإدارة الذاتية" المغلفة أيضا بمزعومة "الديمقراطية" التي لا تبدو للواعي ارتجالية، كما أحسها البسطاء المقصودين بها، إنما تم التحضير لها على مدى بعيد يشمل مرحلة حكم "نظام الأسد" الذي منح حزب " الاتحاد الديمقراطي " هامشاً سياسياً واسعاً وضعه ضمن المجال الدولي والخيار الأفضل، في ظل تخبط المكونات الأخرى التي تمثل السواد الأعظم للجزيرة السورية، بسبب حرمانها العمل السياسي خارج برنامج حزب البعث، فمهدت لطرح "الإدارة الذاتية" كبديل للفوضى ومخلص من الإرهاب.
فلابدّ أن نقف عند تجربة "الإدارة الذاتية" هذه التي تتشارك مع النظام وترتبط معه في القمع والتظليل الإعلامي، وخلق أسباب الاصطفافات ،وحسن التعامل مع الوسط الدولي عبر حملها لأجندات ما فوق وطنية، والتي طرحها حزب الاتّحاد الديمقراطي في الجزيرة والشمال السوري،والتي جعلها أنموذجا يتباهى به وطالب أن تحتذى به.
حيث طُرح هذا الحزب بديلاً للنظام - والذي يتعاون معه اليوم - وللخروج من مأزق الدولة القوميّة على حدّ قوله ،سوق اكذوبة ( الأمّة الديمقراطية ) على شعبٍ للتو خارج من جحيم البراميل المتفجرة وقطع الرؤس وغياب قدرته التحليلية على اختيارمن يتولى إدارة مصالحه في هذه المرحلة العصيبة، ليجد نفسه أمام مايُعدّ سابقة في تاريخ الشعوب، ونشوء الأمم وتشكّل الدول ومفهوماً غير موجود على الكرة الأرضية قاطبة حيث يقوم هذا الشكل على تقسيم الدولة إلى "كانتونات"، ولكلّ قوميّة الحقّ بتمثيل نفسها وإدارة نفسها، لكن كلّها تنسّق عبر جهاز أعلى والجهاز الأعلى يقود ثورة "روج آفا "ومقاطعات "غرب كردستان" كما يسميها الحزب، ثم طغت صبغة "نظام الأسد" على هذه التجربة، لتبدو إدارة ديكتاتورية جديدة، برفع العلم الأوحد وتمثّل فلسفة القائد الملهم، والذي يجب أن تلصق صوره مكان صور القائد الخالد على كلّ جدار ودكان، باستثناء المقرات والدوائر التي يسيطر عليها النظام بالجوار غير البعيد.
كما أنّ هذا الجهاز هو المخوّل الوحيد بتعيين هذه الإدارات وقادتها، والتي تعود في كلّ صغيرة بمرجعيّتها إلى الجهاز الأعلى، أمّا الكبيرة فهذه ليست من شأنها وإنّما تفرض فرضاً ،بعيداً عن الديمقراطية من أجل المصلحة العامّة ومقتضيات الأمّة الديمقراطيّة.
أمّا الانتهاكات التي ارتكبت في ظلّ هذه الإدارة، وجناحها العسكري ميليشيا (ب ي د) فهي أكبر ممّا توصف في هذا المقام، والتي طالت العرب والكرد والسريان والأشوريين والأرمن، وإن كانت بنسب متفاوتة.وإذا أردنا تقييم هذه التجربة من الناحية السياسيّة والأمنيّة والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، فهي أسوأ من النظام وأبشع بكثير، حتى أنّ أغلب الناس صارت تترحّم على التراب الذي كان يسيطر عليه النظام، بسبب تردّي الوضع وسوءه في كافة المناحي التي ذُكرت آنفاً.
هذا عدا حالة التمزّق والتشظّي في المجتمع وأدلجتهُ، وإثارة النزعات القوميّة والطائفيّة وتغذيتها، والتي باتت تنبئ بعدم استقرار جديد، يمثل مصدر قلق لمن يبحث عن نفوذ دولي في الجزيرة السورية .
وبناء على ماسبق، ماخرج الشعب السوري بثورته وقدّم كلّ هذه التضحيات، وعانى ماعانى من الدمار والقتل والتنكيل،من أجل إسقاط نظام الاستبداد والدكتاتوريّة، لتورثه ميليشيات فئوية وأحزاب قوميّة، تتحكّم برقاب الشعب ضمن "كانتونات" إيديولوجية ومقاطعات عرقيّة، لابديل لنظام الفساد والقمع إلّا التمسّك بمبادئ الثورة السوريّة، وأهدافها وثوابتها في الحرية والعدالة الاجتماعيّة والمساواة، في ظلّ نظام ديمقراطي مدني تعددي، تكون فيه السيادة للقانون دون استثناء.ولايمكن للإخوة الكورد، أن تحقّق مصالحهم في ظلّ هذه الأحزاب العصبويّة، وإنّما حقوقهم المشروعة محفوظة، من خلال شركائهم في المنطقة، بناء على ماتقدّم من مبادئ الثورة السوريّة وثوابتها في سورية المستقبل والتي هي لكلّ أبنائها.