بقلم ماجد الديري في( القدس العربي )
منذ مقعد الدراسة الأول، وعقولنا الغضّة تتعرق وهي تقبض على وصية أهلنا : إياكم أن تبوحوا بالسر، وتقولوا: « أهلنا يتفرجون على تلفزيون العراق، إياكم أن تظهروا أي تعاطف مع الجيش العراقي ضد إيران…»، أي محاولة للاستفسار عن سر تلك الوصايا، يجلدك جواب رعيب كئيب: حافظ الأسد يتقرب لإيران!
وتسرب فائض الخوف المزروع في عقولهم إلينا، لكأن أجهزة المخابرات احترفت تصميم سلالات خوف، توارثتها بضعة أجيال عبر جيناتها.
وفي أغرب شيطنة لتصميمات الخوف، العبثُ برؤوسنا في وقت مبكر، من أجل تثبيت تحذيرات الأهل، معززة بمصير بعض من تجرأ على نسيانها، ولتأكيد أنها غارت في النفس عميقا يفاجئوننا بأحد الصباحات المدرسية، بقدوم الحلاق «أبو مرعي» لجز شعرنا كوسيلة رخيصة التكلفة، وناجعة في زراعة وطن خاص لهم، تحت عنوان النظافة من الإيمان تلك الطريقة كانت الخطوة الثانية بعد الخطوة التي تكفل بها الآباء لحقننا بالذل وشكلوا وطنهم داخل جماجمنا.
وما إن تهامسنا، ونحن نقايس رعبنا بحكاية مسربة من أحد المدرسين عن «أبو مرعي»؛ وأنه من يركل كرسي المشنقة، حتى تولّدُ مخيلتك طفلا يتدلى، بعد أن فشل في محاولات التغلب على الهامش المميت المفروض بين رجليه وقطعة صغيرة من أرض البلاد.
كل تهمة الطفل أنه فشل في سد طوفان وصية، من التسلل إلى الواقع، وفشل في لبس ملامح طفولة (المواطن الصفر)الذي سيكونه، وقبل تدلي لسانه آن تلبُّثِهِ بمخيلتنا الصغيرة، يفزّزك صوت المعلم «دورك»؛ فتركض مع جموع زملائك كخروف، وتنتظم مطيعا على الكرسي الخشبي الصغير، وما أن تهبط على رأسك يد «أبو مرعي» الثقيلة حتى تتقاسمك الصور المفزعة. أذكر غمرتني رعدة مفاجئة، كدت أفشل في الحفاظ على السر وأعترف أهلي يستبيحون القنوات المحظورة.. و… وتشنج جسدي بقوة السر الذي كرج كحجر على سفح، ضربة من ماكينة أبو مرعي بترت قولي الوشيك، ظنا منه أني أود الاعتراض على العبث برأسي، فاستفقت.. ودلّيته تحت يد «أبو مرعي» وهي توجِّهُ رأسي المرتاع إلى طقطقات الماكينة كيفما اتفق. كبرنا ثم عرفنا أنه مع تلك الحلاقة «الزيرو» تبدأ سيرة (المواطن صفر)، ولكي تكون ناجحا في تجسيد شخصيته بأفضل تجلياتها، يفضل أن يكون رأسك مطواعا خالي الأفكار، عقيما لا ينجب الأسئلة، ولا يوسوس لك بتعلم الاعتراض. تتضاغط في زواياه المضمرة مشاريع إنسان لا يتسق مع معنى الانصياع، في وطن «يجلس القرفصاء بزاوية الأرض كي تتمدد الآلهة بلاحدود». تعلن أن العقل لديك مخص، وتحشد قناعتك: مسموح لك أن ترتكب جريمة الحياة المسقوفة بالخوف فقط.
في 15/3/2011 تكشفت الأسئلة الحائلة، سنوات، في أذهاننا عن أجوبة بدأت تخنق الشرطي المزروع في دواخلنا، وبعد شل حركته تماما حملنا على جدار الخوف نفتح فيه الكوى التي أطل منها صوتنا الصارخ..حرية، تلك الحرية التي فشل رصاص الأجهزة بليّها، بل استمررنا نهشم بها أبدية الإله، ذاك الذي أورثها، مضافا إليها سوريا، لابنه الذي أرسل لكسر حريتنا كل لقطاء الآفاق.
ربما ساعدت حكايات أهلنا في كواليس الطفولة على نهوضنا، و تحويل الخوف إلى وسيلة ناجحة في منع مشهد وقوف أحدنا على الكرسي، استعدادا لخوض لعبة مغالبةِ السنتمترات المميتة وادخارها ليوم عظيم، وعندما حان الوقت اكتشفنا تحويل الخوف إلى ساتر،أبدعت حيواتنا خلفه ابتكارا إبداعيا، لإنسان سوري يقفز على الخوف ويفضح بؤس العالم.
وما أن انحسر الخوف في أجزاء واسعة من سوريا، حتى واظبت الأجهزة الأمنية على تحضير ما يحافظ على متلازمة ثرثرة الخوف، فبرزت أحدث نسخة من آلة الرعب (الشرطي الملتحي) المتفق مع سلفه على العبث بالرؤوس،فبُدِّلت ماكينة «أبو مرعي» بسكين «أبو جعفر» وبدلَ تدلي الحبل في المخيلة، طغت صورة مجموعة شبان يُقتادون للساحات في لعبة الفراغ، بين شفير السكينة وسطح الرقبة، لأنهم صرخوا أفق أرواحهم…حرية.
وفي إصدار صائت أعدتُ مشاهدته لمرات في محاولة رصد حركة الضحية، وقراءة ما تقوله عيناه. في اللحظة التي يثبِّت بها الجلاد الضحية في انتظار أن تأخذ كاميرات أخرى زواياها الهوليودية، في لحظة (الزوم) البائسة الجرأة تلك ركزتُ بعيني الضحية، لم أر أي حيازة للخوف عليهما ولو في زاوية صغيرة، السطوة لم تكن للخوف بل للقول، وكما قال المسيح «في البدء كانت الكلمة» نضحت عينا مسيحنا السوري على مذبحه الجديد لتقول أن في النهاية أيضا تكون كلمة، وتنضج بوعد ويقين فيما يبدو نهاية تؤثث لبداية أخرى.
الكلمة/ الوصية/ البذرة الحبلى بالحياة آن موت مؤقت، تشي بقول فصل أو هكذا قرأتها بعيني الضحية: أنا القربان لست المقصود بالذبح بل أرواحكم فاستمروا. و يدفع رقبته بانقباضة إرادية؛ ليختصر المسافة بين حد السكين ونحره، وعيناه تهملان «زوم» الكاميرا بيقين أن عزاءه خيط دمه الواصل بين رقبته وأرض السوريين عابقة بالحرية.