الخابور - محمود الماضي
أذكر اسمه “خلف ” اليزيدي، صديق والدي، صاحب الشوارب الغليظة المعكوفة، أذكر ثوبه الأبيض عديم الجيب،
فهمت أنّه قدم من سنجار، وحلّ علينا ضيفاً، حظي بحفاوة الاستقبال، والفرح من قبل والدي، أنزل أهلي خُرجاً من على بغله، كانت محتوياته هدايا لنا، قلائد من تين مجفّف، وباقات تتن تشبه الخس، إلا أنها صفراء يابسة، وميجنة، ومغرفة، كلاهما من الخشب . أكرمه والدي أيّما إكرام، طالت إقامته عندنا إلى أكثر من أسبوع.
لاأدري ماالحديث الذي كان يدور بينهما ؟ إلَا أنّه قطع كلامه، وأشار بيده إليّ، وقال لوالدي : هذا يشبهك ! أجابه والدي : بس والله ياكريف شيطان معجزنا !
ردّ خلف على الفور : باتل باتل باتل هو أنت خرّبت والله كريف، هاك عمّر هاك ( هاك عمّر هاك …بمعنى خوذ لف سيجارة )، ودفع بعلبة الدخان الخاصة به إلى والدي ..
عندها انتبه والدي، وقال : والله طلعت يا كريف ماعاد ترجع، لسانا متعوّد ومرات ننسى حالنا، أُحرِج والدي رغم اعتذاره .
لم أفهم حينها ماحدث، إلّا بعد مغادرة كريفنا خلف، وأعاد والدي لنا ماحصل، متأسفاً على الإحراج الذي وقع فيه أمام ضيفه وصديقه، ووضّح لنا أنّ اليزيدي لايذكر لفظ الشيطان مطلقاً، ولايريد أن يسمع باسمه من أحد، وهذا ما يغضبه أشدّ الغضب .
ورغم أنّني كنت طفلاً حينها، أدركت أنّ والدي – ذاك الأمّي غير المتنوّر – اعتذر، وتأسف كلّ ذلك الأسف، حتى لايمسّ مشاعر ضيفه، وصديقه مع يقينه التامّ بعدم صحة اعتقاده .
لم يسمع والدي بالثورة الفرنسيّة، وماجلبت للعالم من مفاهيم حقوق الإنسان، واحترام المعتقدات، لكنّه تأسّف، واعتذر عن ذلك الخطأ غير المقصود الذي صدر منه، لأنّه يسيء لمعتقد ضيفه، ويمسّ بمشاعره، لم يستخدم حقّ حريّة التعبير، وكان يصحّ وقتها -حسب قيم فرنسا- أن يرسم شيطاناً على الأرض باصبعه، فقد رسم لي ذات مرة قلباً كبيراً، ضمن واجب مدرسي حينما كنت في الصف الأول، وكان قادراً أن يعبّر عن رأيه في أكثر المواقف خطورة، دون رمز، أو تورية، فهو الرجل الذي عبّر عن رأية بكلّ شجاعة واقتدار في أول شبابه، عندما تصدّى لدورية فرنسيّة بالسلاح الأبيض، أثناء مرورها بمرابع قبيلته في جنوب الرد، ممّا اضطرّ سائق الدورية لدهسه، وكاد أن يفقد حياته حينها ……..
لكنّه لم يفعل، لأنّه يرى أنّ الإساءة لمعتقد شخص هي اعتداء مباشر عليه .
والقبائل العربيّة في الجزيرة، والفرات لم تقرأ شيئاً عن الثورة الفرنسيّة، وقيمها الإنسانيّة، عندما احتضنت الأرمن، والسريان، واليهود النازحين من الأناضول، وطور عابدين، وماردين ونصيبين ودياربكر وأورفه وقراهم إبّان الحرب العالميّة الأولى، نحو مضاربهم في دير الزور، والحسكة، والقامشلي .
وقبيلة طي العربيّة لم تسمع حينها بمصطلح التّسامح الديني لدى فرنسا، والغرب حينما اجتمعت لحماية العرب المسيحيين، إثر المعركة التي دارت بين عوائل مسيحية من آل “البزر”، وعوائل مسلمة من عشيرة البوعاصي المحسوبة على طي، في قرية “اسكندرون” من ضواحي القامشلي الجنوبيّة، والتي أسفرت عن وقوع قتلى بين الطرفين، إثر نزاع على حدود أرض زراعيّة بين القرية المذكورة، وقرية هياهي التابعة لعشيرة البوعاصي.
حيث احتشدت قبيلة طي، وشكّلت طوق أمان للأخوة المسيحيين، حتى تمّ احتواء الحادث، والمصالحة بين الطرفين .
كنّا نجلس في مدراس القامشلي على طاولة واحدة، المسلم، والمسيحي، واليزيدي، واليهودي، حتى حصة الديانة التي كانت تقسّمنا حينها، لم تخلق لدينا حالة من الشعور بأنّ هناك فرقاً بيننا !
هذه المفاهيم لم تكن وافدة على مجتمعنا، فقبل قيم فرنسا العوراء التي تتفاخر بها بأكثر من ألف سنة، كانت ثقافة التسامح الديني هذه لدى حضارتنا، تلك التي عاشت في كنفها أعراق، وطوائف، وملل متعدّدة، ومختلفة تحت ظلال العدل .
فمن صلب عقيدتنا واجب “الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر”، الذي ورد في كتابنا بأكثر من آية.
وهذا أسمى، وأنبل سلوك لاستخدام حريّة التّعبير ! الأمر بالمعروف : أي الدعوة إلى كلّ ماهو خير للإنسانيّة، وسعادتها من عدالة، ومساواة، وحفظ كرامة، وحقوق مشروعة، وأمن، وسلام وذلك بالرفق، والموعظة الحسنة، أمّا النّهي عن المنكر فهو عدم السكوت عن أيّ اعتداء، أوظلم، أوجور، أوانتهاك لكرامة الإنسان، أوهضم لحقوقه .
هذه هي حرية التعببر الواجبة لصلاح الإنسانيّة، والمجتمعات، للوقوف في وجه الطغاة، والظلمة، والمستبدّين، لاحريّة التعبير العبثيّة، التي لاتتورّع عن الاعتداء، والإساءة لكرامة الإنسان، ومشاعره !
فحريّة التّعبير التي كانت الشعوب متعطّشة إليها، في ظلّ كمّ الأفواه، والاستبداد عبر العصور، تأتي أهمّيتها من نقد الواقع السيء، والاحتجاج، والصراخ في وجه الطغاة، والبغاة لنيل حقوقها في الحريّة، والعدالة، والمساوة، ولم تكن في مفهومها مطلقة عبثيّة، الهدف منها الاعتداء على الآخر المختلف، والإساءة لمشاعره، سواء في الاعتقاد، أو الفكر، أو العرق .
وكرامة الإنسان هي جوهر مبادئ حقوق الإنسان، فأيّ تشهير بإساءة متعمّدة لمعتقد الأشخاص، وفكرهم هو اعتداء على حقوقهم الشخصيّة، وفق منظومة حقوق الإنسان، كما هو الحال في حريّة التّعبير العبثيّة بمفاهيم فرنسا، التي تتفاخر بها والتي هي في الحقيقة اعتداء سافر على معتقدات الشعوب، والتي تتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان .