الخابور - مهند الكاطع

عرفت المناطق الواقعة بين الفرات شرقًا ودجلة غربًا باسم الجزيرة، وحملت مناطقها أسماء القبائل التي استوطنتها قبل الإسلام، فكانت ديار بكر وديار مضر وديار ربيعة، وبقيت الجزيرة خالية من العمران منذ تدميرها خلال الغزو المغولي والتتري، وشكلت منذ ذلك الحين مناطق نفوذ للعشائر الرحل وأنصاف الرحل، وبقيت صورة الخراب مهيمنة على الجزيرة، حتى شرعت الدولة العثمانية في مرحلة التنظيمات في إعمار الإقليم، فأعادت إحياء بعض البلدات والمدن، وشكلت مراكز أقضية وإيالات ومتصرفيات.

في هذا التقرير، سنركز على التبدلات السكانية في الجزء السوري من منطقة شرق الفرات التي ساهمت في وجود خليط من الأقليات الدينية والإثنية، إلى جانب أغلبية عربية في المنطقة.

الأكراد والتركمان

شهدت إيالة الرقة التي أُنشئت سنة 1586، تبدلات سكانية كبيرة خلال الحقبة العثمانية، وذلك مع بدء السياسية العثمانية القاضية بإسكان العشائر الرحل (التركمانية والكردية) بدءًا من عام 1691، ومن أبرز العشائر التي تم إسكانها قبيلة الملان (الملية) الكردية التي يشير المؤرخ الألماني ستيفان فينتر إلى أن السلطات العثمانية بدأت سنة 1701 بمحاولة إسكانهم في مناطقهم التقليدية، حول ديار بكر، واعتبارًا من سنة 1711، بدأت بترحيلهم إلى إقليم الرقة، لكنهم لم يستقروا طويلًا كحال العشائر البدوية التي وجدت السلطات العثمانية صعوبة في إسكانهم.

كما شهدت منطقة الجزيرة من منتصف القرن الثامن عشر، نزول عشائر كردية من نمط العشائر الرحل وأنصاف الرحل مثل (الميران والكيكان والدقورية والبرازية ورشوان) من مناطقها الجبلية إلى سهول الشمال السوري الحاليّ في فصول معينة للرعي، وقد استعربت بقدر كبير متأثرة بالعشائر العربية في المنطقة، يتضح ذلك من لباسها وعاداتها مع احتفاظ معظمها باللغة الكردية لعدم استقرارها الدائم بالمحيط العربي.

 الهجرات الكردية ازدادت وتيرتها بين عامي 1925-1939 بسبب الحروب التي اندلعت بين الأتراك والأكراد على خلفية الثورات الكردية هناك، كما كانت الموجة الثانية للهجرات الكردية عامي 1945-1970 لأسباب اقتصادية بحتة ساهمت بمضاعفة أعداد سكان الجزيرة وأحدثت خللًا ديموغرافيًا واضحًا، دفع الحكومة آنذاك لإجراء إحصاء سكاني يتم من خلاله تقييد كل من جاء إلى سوريا بعد عام 1945 في سجل الأجانب، ونشأت على خلفية ذلك مشكلة مكتومي القيد والأجانب المحرومين من الجنسية.

كذلك ازداد عدد التركمان ضمن سياسة الإسكان العثمانية، خاصة في مناطق الرقة ومنبج والباب وحوض الفرات والبليخ، حيث جرى إسكان جموع قبيلة بي ديلي في الرقة، وكذلك جماعة بوز أولوس في الأنحاء الممتدة من تل أبيض إلى ضفاف نهر البليخ، ومن عين العروس وصولًا إلى مدينة الرقة، وتقرر أن تخصص لهم أراضٍ زراعية وأماكن إقامة، شريطة أن يتصدوا لغارات العشائر البدوية العربية والتركمانية والكردية ويردوا خطرهم.

تراجعت أعداد التركمان والأكراد في شرق الفرات والشام، حتى تم استيعاب من تبقى بشكل كامل ضمن ثقافة المنطقة، وغلب عليهم الطابع العربي حتى استعربوا تمامًا، أما العشائر التي بقيت تُعرف نفسها بدلالتها التركمانية أو الكردية أو تحتفظ بلغتها، فقد كانت من نمط العشائر الرحل المتحيرة بين الأناضول والشمال السوري كما قلنا، الذين تحولوا إلى أنصاف مستقرين منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

الشيشان والشركس

الشيشان والشركس من قبائل القوقاز المسلمة، هُجر عشرات الآلاف منهم من مواطنهم الأصلية بعد الغزو الروسي لديارهم، وبدأت قوافلهم منذ عام 1861 تتجه نحو أراضي الإمبراطورية العثمانية، وأسكن العثمانيون نحو 20 ألف منهم على الحافة الغربية من الصحراء السورية.

شرع الشيشان ببناء مستوطنة لهم في رأس العين على أنقاض المدينة القديمة التي كانت خرابة لعدة قرون، وبنوا قرى أخرى في المحيط، وزرعوا الأراضي في محيط رأس العين، وقد تخلوا عن تميزهم الثقافي واللغوي، و انصهروا في محيطهم العربي تمامًا منذ بدايات القرن العشرين.

أما القبائل القوقازية المعروفة بالشركس، فقد اتجهت نحو بلدة الرقة، محتفظين بعاداتهم وأزيائهم في البلدة الصغيرة، لكنهم ما لبثوا أن انصهروا في بوتقة المجتمع هناك، كما نجحت قوافل الشركس عام 1878 في الوصول إلى الجولان والقنيطرة وحمص وريفها، مثل قرية النسر شرقي حمص، وكذلك حماة ودمشق ومناطق متفرقة من سوريا والأردن وفلسطين، وبنوا مستوطناتهم هناك، وخصوصًا بجوار القبائل البدوية في حوران، حيث كانت هضبة الجولان من مناطق استقرارها.

الأرمن

شكل الأرمن طلائع الأفواج المسيحية التي لجأت إلى سوريا في بدايات القرن العشرين، فقد دفعت الصدامات بينهم وبين الحكومة في سنين (1895، 1908)، وحوادث الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وما تخللها من صدامات مع الأرمن أو ما عُرف "بمذابح الأرمن"، إلى ارتفاع عدد الأرمن في سوريا، كما أدى انسحاب الفرنسيين المفاجئ من كيليكيا، ضمن اتفاقية أنقرة الأولى سنة 1921 وتخوف الأرمن، إلى زيادة معدلات هذه الهجرة أيضًا، وهناك إشارات كثيرة أيضًا إلى أن العوامل المادية والرغبة في تحسين الحالة الاقتصادية كانت وراء زيادة الهجرة، وقد بلغت أعدادهم، بموجب الإحصاءات الفرنسية في محافظة الجزيرة السورية سنة 1943، نحو 9783 نسمةً.

 السريان

شهدت الفترة بين عامي 1922 و1926 الموجة الثانية من الهجرات المسيحية (السريانية) تجاه الأراضي السورية، وتحديدًا مناطق الجزيرة السورية، مع التسهيلات التي وفرتها السلطات الفرنسية لهم في تلك المناطق، ضمن سياسة فرنسة الإثنية آنذاك، وينحدر السريان الذين هاجروا تجاه الجزيرة من منطقتين رئيسيتين:
منطقة طور عابدين: نسبة إلى جبل طور عابدين، وهم من بلدات وقرى زراعية في مديات وآزخ ونصيبين، وكان معظمهم منضويًا تحت سلطة العشائر الكردية، ويحتفظ معظم هؤلاء بلغتهم السريانية.
منطقة ماردين: شكلت العربية لُغة وهوية السريان المنحدرين من مدينة ماردين وقراها المحيطة وأشهرها قلعتمرا (قلعة مرة) والقصور التي ينسب إليها معظم السريان في الحسكة الذين يعرفون بـ(القصوارنة).

وقد بدأت الهجرات السريانية منذ عام 1922، باتجاه الحسكة مباشرة، بعد تمركز الفرنسيين فيها، وشكلت العناصر السريانية طلائع جيش المشرق الفرنسي حينذاك، وقد قدَرت المفوضية الفرنسية عدد السريان سنة 1943 بنحو 20647 نسمة، وهي بذلك أكبر طائفة بين الأقليات المسيحية في المنطقة ولا تزال.

الآشوريون

مثلت الهجرات الآشورية (النسطورية) المصدر الثالث من مصادر الهجرة المسيحية في القرن العشرين، حيث وصل عدد من هاجر منهم من العراق إلى سوريا سنة 1934، بعد المعارك التي اندلعت بينهم وبين الجيش العراقي، أواسط سنة 1939م لنحو (9000) آشوري في وادي الخابور، حيث منحوا أراضٍ على ضفتي الخابور بعد نقل العشائر العربية منها.

اليهود

مع السيطرة الفرنسية على الجزيرة، هاجرت نحو 150 أسرة يهودية من بلدة نصيبين إلى البلدات التي شرعت فرنسا بإنشائها في منطقة الجزيرة، وبشكل خاص مدينة القامشلي التي بدأ اليهود ببناء المحال التجارية فيها، في المنطقة التي تتوسط السوق، وباتت تُعرف بالحي اليهودي، وتبين إحصاءات عام 1943 بأن عدد اليهود في القامشلي بلغ 1319 نسمةً، وفي عام 1970 كانت أعدادهم تصل بالكاد إلى 414 نسمةً في الجزيرة، ولم يبق منهم أحد بعد هجرتهم إلى "إسرائيل" وأوروبا.
المصدر: نون بوست