لبت بعيني كلّ الاتجاهات ، بحذر أقتفي أثر الذهول في الفراغ ، كطفل انتهى للتوِّ من اقتطاف أوّل أخطاء الحياة ، عبرتني المخاوف ، هل ارتكبت حماقة ما ؟ كيف عثرت على نفسي في هذا الفراش ؟! لم أعرف .

جاهداً تذكَّرت بأنّي إثر مواقف تكرّرت معي كثيراً في حياتي ، أصاب بسكون في الجمجمة فأوقّع لحظات سلام مع الأشياء . المهم وجدتني في فراش وثير ، تجلجل من كلّ جوانبه رائحة أنثى . استنفرتْ مخيّلتي ، وراحت ترسم صورتكَ , وأنت تخاطب زوجتكَ قبل خروجكما من البيت: رتِّبي الفراش , ولابدَّ أنّها أجابتك : لماذا نرتِّب ماسنخرِّبه في المساء ؟!

هكذا تصوّرْتكما . وهذا ما ساعدني على التّذكّر بأنّي هربت ، وهي المرّة الأولى في حياتي التي أهرب فيها .

هربت بعد أن ارتديت ... ( هذا التفصيل سأوافيك به في موقع آخر من الرسالة ) ، اغفر لي اختراقي حرمة البيت دون سابق إنذار .

بعد صحوتي من سباتي أو نوبتي سمّها ما شئت ، راودني سؤال هل جُلبت عنوة إلى هذا الفراش من قبل أنثى عاشت حلمي ذاته ، واضطرّت إلى اختطافي، لعجزي عن مقاومة الاختطاف ؟!

ثبْتُ إلى رشدي ، وبدأت الذاكرة تتعرّى من كلّ أقنعتها لتفضح أسباب النوبة . في غفلة ، عن عيون الوعي التقينا ، والتقت عيوننا والتقى التعب في أقدارنا ، تشابكت أرواحنا حتّى اكتمال ظلّي ، توحّد حلمنا من تشتّته ، تذكّرت ذات مرّة أخذنا الحديث بروعته الرسوليّة إلى الحديقة المتنفَّس الوحيد في المدينة ، آنها عبّرت عن اختلافي مع القائلين : الحبّ التقاء وجهات نظر ، بل هو التقاء لونين يمتزجان بحدة ، إلى لون تُرشق به الحياة ، فتغدو مغايرة لحياة الذين لم يحسنوا اللقاء بعد . وافقتني بسرور وزهو من عثر على ضالَّته.

(على فكرة) الحديقة يؤمّها العشاق الهاربون من زوجاتهم ، المارقون على صواب الاختيار ، والذين لم يكتشفوا غباءهم بعد .

المُهم حلمنا وسبحنا حول أحلامنا إلى درجة عدم ملاحظتها لما يوحي بمشكلتي مع ظلّي المترهبن ، عندما أكون وحيداً ، ربّما لأنّي أجيد لبس الحالات الجديدة في حياتي ، والتأقلم باحترافيّة معها ، هكذا يقول الذين يعرفونني .

هكذا يا صديقي لي مع الظلال حكايات : ذات يوم انخرطت في جمع من الأطفال السالكين طريقاً ترابيةً إلى النهر ، حال وصولنا كنا نقعي على الحافّة ، ومن بين أصابعنا الناعمة ، تولد مخلوقات طينيّة نتركها للشمس كي تنضجها ، يومها خرجنا من الماء ، فرأيت ظلال أناسي الطينيين فقدت بعض أعضائها ، ولم أجد إلّا حافر حمار احتفظت به ذاكرة التراب ، بعدها لم أحسن تقييم شعوري الذي التصق بي لأيام .

خذ حكاية أخرى : على وجه الماء يسبح ظلّ شجرة ـ فقدت أحد أغصانها ـ حقّقت الشمس خرقاً فيه ، تصوّر هذا المخلوق الكبير يحقّق خرقاً في ظلِّ شجرة، حتّى العصافير التي سمعتُ زقزقاتها لم أرَ ظلاها . لعلَّ ظلال الأوراق ابتلعتها .

لن أطيل لك عن الظلّ , بل أتابع......أنا وهي حلمنا بتأسيس عائلة ، امتدّ الحديث عنها إلى أن أعياني التعب ، واقتعدت مقعداً رخاميّاً , مع انحسار بنطالي انسحب الارتياح من وجهها ، وغدت ملامحه ملامح المتقزِّز من شيء ما , قد يكون السبب لون ساقي الداكن أو لمعته الجريئة , كادت تقول ساقك بدعة ، وأنا أكره البدع ، وتعرف دائما يبحث الإنسان عن مبرر لقراراته التي يظنَّ أنّها خاطئة ، خصوصاً أنَّ المرأة تبذل ضِعْفي جهد الرجل في البحث عن الحبِّ، وعندما تلتقيه تعترف بالربع فقط.

بعد أن رأت ما رأت من لون داكن ، وساق لامعة تبدّل كلّ شيء فيها ، حتّى باتت ملامح وجهها كصفحة السديم المكفهرّ بالغبار , تركتني دون أن تكلّف نفسها عناء القول ، ككلّ النساء اللواتي يصحْنَ للانسحاب : كلّ شيء بيننا انتهى , أنا الإنسانة الخطأ .

انسلّت من أمامي تتلذّذ بمتعة الانصراف الفجّ ، مخلّفة وراؤها عاصفة من البرد تدكّ نيراني التي أجّجتها قبل قليل , وددت لو أقول...أصرخ: أيّتها المتحايلة كالعشب على الرياح ، أنت كالحرير بلا روح , كالقصب بلا داخل (إلى هنا ستقول ما الذي يعنيني في هذه الرسالة , انتظر وسترى أنها تعنيك)

انفلتُّ في الشارع أقلّب برأسي آخِر أسئلتها:هل لديكَ بيت؟؟

سؤال نبش ما اعتمل في الذاكرة...... : في يوم قرّر فيه الوطن أن يهبني منزلاً يأويني...يأوي أحلامي المترامية على تخوم الروح ، يجنّب ظلّي نظرات المتندّرين لقاء ما بذلتُ , لكن سير معاملة الاستلام كان بطيئاً كسلحفاة تسابق حيتان الزمن , كل موظّف يصرخ في وجهي صراخاً يختلف عن الآخر:اجلب براءة ذمّة عن الديون المصرفيّة , آتنا بورقة عدم استفادة من الجمعيّات السكنيّة......... حتّى كدت أقلع عن فكرة المتابعة , خصوصا بعد فشل أوراقي المتضخّمة من الأختام وبراءات الذّمة في الوصول إلى طاولة أخرى ، فهوت لتقبّل البلاط ، ويندحس بعضها تحت الكراسي والطاولات جرّاء إلقائها من موظَّف إلى آخر.......بعدها سمعت ضحكات مجَّانيّة ، فلم أجد تفسيراً للمشهد إلّا بعد أن اغتصب والدك المحترم البيت بطريقةٍ يلزم لشرحها رسائل كثيرة , عندها عرفت أنّي لم أكن إلا مجموعة من الأوراق المتطايرة من مكتب إلى آخر.

حين انبرى والدك لمساعدتي..آآآآآه لو تعرف كم أسرعت الأوراق وعمليّة الاستلام بطريقة سحريّة , هذا البيت الذي تسكن وزوجتك فيه....

عندما هربت من المشفى ، انسابت يدي إلى جيبي ، فلم تصطدم بغير المفتاح الذي اغتصب والدك أخاه ونسي أنَّهما توءمان..فقررت المجيء إلى البيت دون وعي لقضاء آخر النوبات فيه , لا أدري لماذا أنا مضطرّ أن أعرّج بك في هذه الرسالة إلى ما شاهدته منذ أيّام على إحدى قنوات التلفاز حيث ترافق صوت المذيع حمامة تقترب من زجاج الشاشة " مريانا " حمامة غيّرت موازين الحرب العالميّة حين أنقذت عشرات الجنود المحاصرين بالموت بعد نجاحها في الإفلات ببراعة من الصقور الألمانيّة , ثمّ يتابع بمقطع مهم: إنّ " مريانا " بعد موتها أقيم لها ضريح محترم يزوره السيّاح من جميع أنحاء العالم ... ويصدح المذيع بصوتٍ مبلّل برجفة الغيرة :هل قرّرت " مريانا " أن تهب وطنها حتّى بعد موتها عائداً للسياحة ؟؟!.....أم هو الذي قرّر احترام " مريانا " إلى الأبد ؟؟!

تفكّر عزيزي المشاهد...هكذا ختم المذيع.

بعد هذا أيضاً همت على وجهي ، وأثقال كثيرة تثوي في زوايا النفس,تجرّني إلى نوبة فريدة ربّما للمرة الرابعة ، وقد تكون الخامسة ، أو لعلّها العاشرة.....أذكر فقط أني توقّفت أمام زجاجة لعرض الألبسة النسائيّة يتصدّرها تمثال من الجبس ((يسمّونه الموديل )) أُلبس قميصاً نسائيّاً تضايقه حلمتان تكاد ان تطلان بوقاحة النحّات الذي صنعه ، وعلى غفلةٍ منّي ينسلّ من داخلي شخص ينتصب قبالتي تماماً يثرثر: أنت موجوع..أنت جائع للأنثى , فقدتَ التمييز بين ما فيه روح ، وما غادرته الروح كظلّك , امتعض منه ولا أوليه اهتماماً...فقط أفرد أصبعي الوسطى ، ألوّح بها أربع مرّات وأغزّها له في الهواء فيتلاشى , وأعاود استراق النظر من خلال الزجاجة إلى فتاة من لحمٍ ودم في وسط المحلّ , الأمر الذي يدفعني لاقتحام المحلّ تحت سيطرة فكرة شراء هديّة لحبيبتي القادمة , تعترضني صاحبة المحلّ : رجاءً هذا محلّ نسائيّ , أخجل من نفسي وأفرّ مسرعاً . مؤكد أنها كانت أسرع منّي بكثير , آخر ما رأيته منها أنّها سوداء عريضة ، وصوت فراملها مازال يرقد في الذاكرة , بعدها صحوت في المشفى فلم أجد في الغرفة سواي , أنزل من السرير أعرف أنّ الضوء خلفي , أنظر إلى ظلّي المنطبع على البلاط أراه...((لن أقول لك كيف رأيته قبل أن تقرأ ما تذكّرته حينها))...

أصوات مدافع تتداخل مع دويّ انفجارات ، وجنود يتمترسون في خنادقهم , كنت متحفّزاً في خندقي ورائحة الدم تملأ المكان ، ونيران تلتهب في الأفق ، أبطال أمام عيني وهبوا الأرض أرواحهم بصمت رضيٍّ , دفعتني كلُّ هذه المشاهد إلى تصوّر أشلاء أطفال ستتناثر في شوارع المدينة خلفنا ، ونساء لا أدري ماالذي سيحلّ بهنّ إن وصل العدوّ النجس.

أطلقنا أنا وجماعتي العهد بأن لا تولد تلك المشاهد ، فتوالت الأصوات : الثبات..الثبات..لاتراجع .

في لحظة حياديّة من الوقت كلحظة الوسن جرّني رفيقان : تعال أيّها البطل,الشيء الوحيد الذي لم ينسحب ، رِجْل انتهى أعلى ساقها بطين أحمرمتضخّم , في هذا الموقع بالذات من الرسالة أقول لكَ : رأيت ظلّي ناقص رِجْل ....

عدتُ إلى السجل المتوضع على الطاولة بجانب السرير ، مكتوبٌ فيه اسمي وإلى جانبه كُتِبَ " مصاب حادث سير " مسحت الجملة الأخيرة ، وكتبت " مصاب حرب " .. مصاب حرب .. مصا ... ثمّ ارتديت رِجْلي الصناعيّة الملساء ذات اللون الداكن ، وهربت..وهي المرّة الأولى التي أهرب فيها .

بقلم الروائي: ماجد الديري